الطريقة الهاشمية الحبيبية
تحفة الغانم في
ترجمة الشيخ مولاي هاشم
للفقير إلى مولاه القدير البلغيثي عبد الكبير
كان الله له في الدارين أمين
بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد و على اله صلاة تكون لنا بها جميع أمورنا يا الله
مقدمـــــة
الحمد لله المعطي الوهاب المتفضل على من يشاء بلا حساب، يختار بعلمه من خلقه من يريد بحكمته لقربه فيجعله ذائع الصيت مشهورا أو خامل الذكر مستورا أو في مقام الذل له و الإرشاد أو الإعتزال عن سائر العباد. و إن كانت أحوالهم متعددة فعين الإمداد واحدة، فيا سعد من أكرمه مولاه بفضله، و عرَّفه إلى أحد أوليائه و أطلعه على ما له من الخصوصية ليميل إليه بالكلية، فلا يوصل إليهم من غيرته عليهم إلا من سبقت له العناية من الله بالرعاية. و أفضل الصلاة و أزكى السلام على سيدنا محمد، سيد الأنام وخاتم الرسل الكرام و الشفيع في يوم الزحام، رحمة الله للعالمين و على آله الطاهرين و صحابته الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
يقول العبد الفقير إلى مولاه القدير البلغيثي عبد الكبير كان الله له في الدارين آمين، فهذه نبذة ظريفة و ترجمة لطيفة لمولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى، فبعدما تكرر الطلب من بعض المريدين و الأحباب في معرفة شيء من سيرته إستأذنته فامتنع و قال لي: ( لا ترجمة لي ) فإمتثلت للإمر و أبلغتهم الخبر و بعد مدة ليست باليسيرة نحو سبع سنين كأنما ورد علي وارد أن الوقت قد حان فإستأذنته ثانية فأنعم بالإذن في ذلك، فجمعت ما كنت دونته سابقا مما حكاه لي عن نفسه و استزدته من ذلك حتى جمعت جملة وافية من أخباره، فالحمد الكثير لله تعالى على التيسير، و سميتها ( تحفة الغانم في ترجمة الشيخ مولاي هاشم ) جعلها الله تعالى خالصة لوجهه الكريم آمين.
الشرفاء البلغيثيون
هده لمحة موجزة جدا عن هذا الفرع من الدوحة النبوية الشريفة، ينتمي الشرفاء العلويون البلغيثيون إلى جدهم الأكبر و القطب الأشهر مولاي عبد الواحد أبو الغيث كان رضي الله عنه، أوحد أهل عصره علما و تصوفا، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، تولى تيسير شؤون زاوية جده مولاي علي شريف رضي الله عنه، و سبب كنيته بأبي الغيث أنه مر موسم جفاف شديد بمنطقتهم فاختير لصلاحه و علمه للإمامة في صلاة الإستسقاء فما أتم دعاءه حتى أغاثهم الله تعالى بالمطر فلقب بذلك، و قد تكرر هذا الأمر معه في حياته مرات عديدة حتى عرف و اشتهر، و قد أطلق على عقبه لقب البلغيثيون نسبة إليه، توفي رضي الله عنه بسجلماسة ودفن هناك و قد بني عليه ضريح و خلّف من الذكور ستة وهم:
يوسف الأكبر و يوسف الأصغر و عبد العزيز و هبة الله و العربي و محمد و قد تفرق نسله في نواحي متباينة، فمنهم من سكن قصبة سيدي ملوك و منهم بأخنوس و بعضهم بغريس و غيرها بل و صل بعضهم إلى سوس، كما إنتقل بعض ذريته بأمر من السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام رحمه الله تعالى إلى مدينة زرهون و سكنوا قصبة صارت تنسب إليهم تسمى قصبة البلغيثيين، كما رحل بعضهم إلى الأطلس و مراكش و فاس و مكناس و منهم من هاجر إلى المدينة المنورة و إستقر بها.
قصر الشرفاء
إنتقل أجدادنا للسكن في واقّا بمدينة كلميمة و إستقروا بها و صار القصر الذي سكنوه ينسب إليهم فأطلق عليه ( قصر الشرفاء )، لم يسكنه غيرهم مدة طويلة من الزمان، ثم فيما بعد إستوطن معهم فيه أناس و عائلات من المناطق المجاورة، و قد أسست به زاوية درقاوية على يد الشيخ العارف بالله تعالى الشريف مولاي سعيد البلغيثي رضي الله عنه، و هو الذي لقن الورد لشيخنا سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه كما حكى ذلك بنفسه، و من هذا القصر هاجر جده مولانا الشيخ الوالد، ألا و هو الشريف البركة ولي الله تعالى، مولاي عبد الرحمان رحمه الله تعالى إلى مدينة أزرو و إستقر بها إلى مماته.
سبب الانتقال:
قال مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى : ( أراد جدي مولاي عبد الرحمان رحمه الله تعالى أن يشتغل بالتجارة، فاشترك هو و أخوه مولاي سليمان في راس المال و أنطلق في رحلته صوب مدينة فاس، فلما وصل إلى منطقة سيدي عدي قرب مدينة أزرو، إلتقى بالشيخ العارف بالله تعالى سيدي الطيب الهواري رضي الله عنه مع جملة من مريديه، كانوا في سياحة هناك فأخذ حالهم بمجامع قلبه، فذهب إلى الشيخ و أخذ عنه الطريقة و صحبه في سياحته تلك و أنفق ما كان معه من مال على شيخه و أصحابه و تجرد بين يديه و بقي في خدمته مدة من الزمان )
و لما استوى أمره وبلغ مبلغ الرجال في طريق القوم، أمره شيخه بالذهاب إلى أزرو و أعطاه الإذن في تلقين ورد الطريقة و بناء زاوية هناك، و هو ما قام به رحمه الله تعالى و عمل بإشارة شيخه، فكانت زاويته أول زاوية درقاوية بتلك المنطقة، فقصدها المريدون و علا بها ذكر الله تعالى صباحا و مساءا فإنتعشت القلوب و الأرواح و إهتزت الأجساد و الأشباح شوقا و محبة إلى الله تعالى.
كان مولانا عبد الرحمان رضي الله عنه محبا للخمول يبتعد عن أسباب الشهرة زاهدا في الدنيا، غايته الزهد، يضرب به المثل في الكرم، خاليا من الدعوى، لا يميز نفسه عن إخوانه بشيء و لا يترك شيئا لغد، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، و قد ربى أهله قبل أصحابه على هاته الخصال الحميدة و الأخلاق الفريدة.
و شيخه سيدي طيب الهواري أخذ الطريقة عن الشيخ سيدي محمد العربي المدغري عن الشيخ سيدي أحمد البدوي زويتن عن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنهم جميعا.
دفنه في المسجد
في اليوم السابق لوفاته رحمه الله تعالى، أخبر بعض أهله و أصحابه أنه سيدفن في المسجد، فلما وصل الخبر إلى بعض مناوئه ممن كانوا يعارضونه و ينكرون عليه أقسموا أن ذلك لن يكون، و شاءت القدرة الإلهية أن يهطل في تلك الليلة ثلج كثير تعطلت بسببه الطريق إلى المقبرة، فلما إجتمع القوم في الغد لصلاة الجنازة عليه رحمة الله، تحيروا كيف السبيل إلى دفنه وهم محاصرون بالثلوج من كل جانب، فما كان من أعيان القوم إلى أن أشاروا بدفنه مؤقتا في المسجد حتى تفسح الطريق ثم ينقلونه إلى المقبرة، و هكذا فعلوا و بهذا تحققت فراسة هذا العبد الصالح و مزال لحد اليوم و هو مدفون في المسجد كرامة له من الله تعالى.
وصية تتوارث
لما مرض مولاي عبد الرحمان رحمه الله و أحس بدنوا أجله، أوصى إبنه مولاي عبد الكبير رحمه الله بالمحافظة على المجلس الأسبوعي للذكر و الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، وكذلك فعل هو مع إبنه مولانا الشيخ الوالد مولاي هاشم حفظه الله تعالى، و فعل معي نفس الأمر أسال الله تعالى التوفيق آمين.
الجد مولاي عبد الكبير رحمه الله
ولد الجد مولاي عبد الكبير رحمه الله سنة 1889 تقريبا بقصر الشرفاء بوقا و بها نشأ و حفظ القرآن الكريم، و لما أخده والده معه إلى مدينة أزرو حفظ بعض المتون و أخذ شيء من العلم ثم أشتغل بالتجارة، ففتح الله له فيها فتحا كبيرا حتى صار من أعيان البلد. وكان رحمه الله يتحرى الحلال في مكسبه و يشدد في ذلك، لا يقبل أدنى شبهة، فبارك الله تعالى في تجارته و أثمر له ذلك سرعة إستجابة الدعاء حتى صار مشهورا بين الناس بهذا الأمر، قال مولانا الشيخ : ( ما دعا لأحد بشيء من الخير أو غيره إلا أصابه، وقد شهدت هذا الأمر سواء في أهله أو أصحابه أو غيرهم و الأخبار في ذلك بين أهل بلده مشهورة معلومة متداولة بينهم) . و قال حفظه الله تعالى أيضا: ( و كان أكثر دعائه لي رحمه الله : جعلك الله تعالى من كبار العارفين بالله وجعلك من خاصة أهل وقتك. و قد حقق الله تعالى ذلك بلا شك بفضله ومنه فله الحمد وله الشكر).
وكان رحمه الله جلالي الظاهر، كساه الله تعالى هيبة في قلوب الناس و إحتراما و تعظيما، ينفق في سبيل الله بلا حساب، خفية و جهرا، يحب مجالسة المساكين، مداوما على قيام الليل، لا يقتر لسانه على ذكر الله، جدي في أموره كلها، ذا حزم و عزم و همة كبيرة، إذا توجه إلى فعل شيء لا يصرفه عنه صارف حتى يقضي أمره، و كانت لديه جلباب قديمة فيها بعض الرقع يلبسها أحيانا و يخرج بها في المدينة و خاصة السوق، حيث دكاكين تجارته يهذب بذلك نفسه، كما حكاه لي مولانا الشيخ الوالد حفظه الله.
و رغم مكانته الإجتماعية و إمكانيته المادية، إلا انه لم يربي أولاده على حياة الترف، بل أخذهم بالحزم و الجد، و يأمرهم بالعمل و الكد لا يتساهل في ذلك، وكان يأمرهم بالصلاة و يشدد في ذلك كثيرا، و أنشأهم على مكارم الأخلاق و محامد الخصال.
سبب اتصاله بالشيخ سيدي محمد بن الحبيب رحمه الله
فكما أسلفنا، نشأ الجد رحمه الله تعالى بين الفقراء في زاوية أبيه، و في هذا الجو الرباني تشرب حب الطريقة و مجالس الذكر، و بعد أن توفي والده رحمه الله تعالى، ومرت السنين أخذ الجد رحمه الله في البحث عمن يأخذ بيده في طريق الله تعالى، حتى ساقته الأقدار الإلهية إلى مدينة فاس و إجتمع مع بعض الصالحين فيها، فاسأله هل يوجد من شيخ تربية، فقال له نعم إنه الشيخ سيدي محمد بن الحبيب و دله على زاويته بقصبة النوار، فقصده الجد رحمه الله تعالى من حينه فلما وصل الزاوية إستأذن في ملاقاة الشيخ فأذن له.
ولما أجتمع الجد رحمه الله مع الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه قال له : ( هل أنت شيخ مأذون من الله و رسوله، أم مثل باقي مشايخ هذا العصر ) يقصد بذلك المدعين لمقام المشيخة، أما الصادقين فلا يخلوا منهم زمان و لا مكان، فأجابه الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه : (أنا شيخ مأذون من الله و رسوله ،و إذا كذبت عليك أموت على سوء الخاتمة ) فمد الجد يده إلى الشيخ و قال له خذ بيدي إلى الله تعالى، فصافحه الشيخ و لقنه الورد، و كان ذلك سنة 1924 م فرجع الجد إلى أزرو، و أخبر أهله و أصحابه أنه لقي شيخا مربيا و أخذ عنه، و صار يعرف بالشيخ و بالطريقة هناك، و لما إجتمع معه عدد لا بأس به من الراغبين في أخذ الطريقة، ذهب بهم إلى الشيخ، و أخدوا عنه، فجعله الشيخ مقدما عليهم، ثم طلب الجد من الشيخ أن يشرفهم بزيارتهم في أزرو، و ألح عليه في ذلك، فإستجاب الشيخ و حدد موعد لذلك الأمر.
حل الشيخ رضي الله عنه بأزرو فوجد الجد و من معه من الفقراء و بعض الأعيان في إستقباله، فنزل في ضيافة الجد و حضر جمع كبير من الناس لرؤية الشيخ، لما كانوا يسمعونه من الجد في في شأنه، فكانت ليلة مباركة من نفحات الدهر، و بعد مجلس الذكر ألقى الشيخ درسا، أثر في قلوب الحاضرين و شوقهم إلى معرفة الله و سلوك طريق القوم، فقام ثلة ممن حضروا و أخذوا الطريقة عن الشيخ و هكذا إنتشرت الطريقة هناك.
فقام الجد رحمه الله بإعادة بناء زاوية والده، و أحيا أمرها، فامتلأت بالذاكرين لله تعالى من جديد و صارت مقصدا لهم، فسرت أنوار الذكر و التذكير في قلوب العباد، فكانوا يجتمعون فيها يوميا، وكثر العدد و المدد ببركة الإذن، و تيسر فتح زاوية أخرى في بن صميم، و هي منطقة قرب مدينة أزرو، فتزايدت أعداد المريدين و المريدات حتى صار لهن يوم مخصوص بالزاوية يذكرن الله فيها، و هكذا إنتشرت الطريقة في المنطقة كلها و عم هذا الخير تلك الربوع.
و حتى يكون للزاوية كفاية مادية لتيسير شؤونها، قام الجد رحمه الله تعالى و حبس عليها دكاكين له من أجل ما تحتاجه من نفقات.
كان من عادة الجد رحمه الله تعالى إذا ذهب إلى موسم شيخه أن يأخذ معه بقرة و ما يكفي من الشاي و السكر للموسم كله، فإذا وصل، منحه الشيخ بيتا خاصا به فيتولى هو بنفسه توزيع ذلك.
و الموسم السنوي يكون في اليوم السابع من عيد المولد النبوي الشريف، و في اليوم الثامن يقيم الجد ليلة للفقراء بمنزله بمكناس، يحضرها الشيخ و مقدمي الطريقة و من حضر الموسم، تلك عادته حتى توفي رحمه الله.
وفاته رحمه الله
كان الجد رحمه الله مريضا في أخر أيامه، لا يستطيع المشي إلا بصعوبة بالغة، مما جعله لا يحضر مجالس الذكر الأسبوعية التي تعقد كل خميس بالزاوية، فصار يقيم مجلسا للذكر كل جمعة بعد صلاة العصر في منزله بمكناس، حيث إستقر أخر أيام حياته. و ذات جمعة، جلس في فناء بيته يذكر الله كعادته، وبعد حين سكت، فظن أهله أنه قد نام من شدة تعبه، فصاروا يتحركون بهدوء لكي لا يوقظوه.
وفي نفس الوقت، كان الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه مع بعض مريديه في زاويته يحدثهم، وفجأة سكت و إسترجع، و قال لهم: إن مولاي عبد الكبير البلغيثي قد توفي الساعة في منزله، و إن أهله يمرون بجانبه ولم يفطنوا لذلك. فأرسل أحدهم إلى بيت الجد لإخبارهم. فوجدوا الأمر كما أخبر به الشيخ، وهذه كرامة ظاهرة للشيخ، و دليل على قوة الرابطة القلبية و الروحية بينهما. و كان ذلك في سنة 1971 م، رحمه الله تعالى.
مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى
هو الشيخ العارف بالله تعالى و الدال عليه بحاله و مقاله، شريف النسبتين و برزخ البحرين، قدوة السالكين و خلاصة العارفين، من إصطفاه مولاه لحضرة قربه و أقامه مرشدا إليه بإذنه، فخلع عليه أسنى حلل الولاية و أظهر عليه نفائس أسرار العناية، فأشرقت شمسه و بانت خصوصيته، فحاز مرتبة الْقُطبانية فضلا من الله بلا مرية. ذو الأخلاق العلية و الأحوال الزكية، أبو محمد مولاي هاشم بن عبد الكبير البلغيثي العلوي نسبا، الدرقاوي الشاذلي طريقة و إنتسابا، المحمدي فيضا و مشربا.
إرهاصات قبل مولده و بشارات
سبقت و لادته إرهاصات و إشارات تُنبئ عن شأن هذا المولود المبارك، و هي كثيرة متداولة بين أفراد الأسرة، أقتصر على ما رواه لي بنفسه عن إحدى خالاته رحمها الله تعالى، قالت: ( رأيت في منامي قائلا يقول لي: كان الشيخ و يعني به الشيخ سيدي محمد العربي المدغري رحمه الله، و يوجد الآن شيخ، و يعني به الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رحمه الله، و سيكون بعده شيخ، و يعني به هذا المولود القادم).
ولادته و نشأته
ولد مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى سنة 1940 م بمدينة أزرو و بها نشأ، فوالده هو مولاي عبد الكبير بن مولاي عبد الرحمان، و أمه هي السيدة الفاضلة الشريفة لالة السعدية، بنت ولي الله تعالى سيدي قاسم الهيلالي، الشهير بأبي الأضياف، عنوانا لكرمه، رحمهم الله تعالى جميعا.
وسيدي قاسم الهيلالي رحمه الله كان في غاية العفة و الديانة، مشهور بالصلاح حرفته التجارة، كان ذا جد و حزم، قائما على خدمة أهل الله محبا لهم فانيا في جنابهم، مجانبا للغو و لا يخوض فيما لا يعنيه، مكثرا لذكر الله، أخذ الطريقة الدرقاوية الشاذلية عن الشيخ سيدي بلحاج، و كان نواحي الخميسات، عن الشيخ سيدي محمد بن العربي المدغري عن الشيخ سيدي أحمد البدوي زويتن عن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنهم جميعا. ثم صحب بعد وفاة شيخه العارف بالله تعالى سيدي محمد الحلو الذي كان أول شيخ لشيخنا سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنهم جميعا، نشأ و تربى مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى في حضن والديه على مكارم الأخلاق و معالي الأمور، و هو الإبن الوحيد بين إخوته لدى أمه، و هي الوحيدة التي أنجبت من بين إخواتها و أخوها. فكان حفظه الله تعالى الوحيد في عائلته من جهة الأم لهذا كان محض رعايتهم و عنايتهم و إهتمامهم.
نسبه الطيني
هو مولاي هاشم بن عبد الكبير بن عبد الرحمان بن علي بن الحسن بن محمد بن هاشم بن أحمد بن أبي الغيث بن يوسف بن محمد بن يوسف بن القطب سيدي عبد الواحد أبو الغيث بن أبي الجمال يوسف بن مولاي علي الشريف بن الحسن بن محمد بن الحسن الداخل بن القاسم بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن الحسن بن أحمد بن أسماعيل بن قاسم بن سيدي محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي و سيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيدنا و مولانا محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم و على أله.
دراسته
قال مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى: ( بدأت حفظ القرآن الكريم على يد الشريف البركة مولاي عبد السلام البوحامدي رحمه الله تعالى، و هو زوج أختي الكبرى، في سن مبكرة جدا، كان والدي رحمه الله يوقظني لصلاة الفجر ثم يأمرني بعدها بالذهاب لمنزل الفقيه و ذلك لقرب المسافة بيننا. ثم إلتحقت بالمدرسة فصرت أذهب بعد صلاة الصبح لحفظ القرآن و لما يحين وقت المدرسة أذهب أليها، ثم في المساء أعرج على الفقيه، و هكذا جمعت بين التعليم في الكُتَّاب و المدرسة، و لما كانت تفصلنا عن المدرسة مسافة طويلة، أعطتني و الدتي سبحة و قالت لي: إشتغل وقت ذهابك للمدرسة بذكر الله، و لقنتني سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم و على آله، و كانت رحمها الله حريصة جدا على أن أحافظ على الصلاة منذ صغري و قد توفيت بعد إلتحاقي بالمدرسة بقليل رحمها الله تعالى ).
و لما أتم المرحلة الأولى من دراسته، إلتحق حفظه الله بمكان يعرف أنداك بالإعدادية البربرية بأزرو، التي جل من كان يدرس بها من أولاد الأعيان، و عامة المدرسين من الأجانب فحصل على شهادته منها.
إنتقاله إلى مكناس
إنتقل حفظه الله إلى مدينة مكناس من أجل إتمام دراسته وكان ذلك سنة 1952 م، و إختار أن تكون العلوم الشرعية هي تخصصه، فأعاد سلكة أخرى من القرأن الكريم برواية ورش عن نافع تجويدا على يد الفقيه البركة سيدي محمد السليماني رحمه الله، كما إلتحق بالكراسي العلمية بالمسجد الأعظم، فحفظ المتون من سائر الفنون و نهل العلوم من شيوخه الأجلة رحمهم الله تعالى، فقد أخد علوم اللغة العربية من نحو وصرف و بلاغة و غيرها عن الفقيه الشريف البركة مولاي عبد الله الشبيهي الشهير ب( عسيلة ) و الفقيه سيدي عبد العزيز، و أخذ علم الفقه من ابن عاشر و رسالة أبي زيد القيرواني و الشيخ خليل و طرفا من الموطأ عن كل من الفقيه سيدي محمد الزرهوني و الفقيه العرائشي و الفقيه البصري، و أخذ التفسير عن الفقيه البعاج، كما لازم الفقيهين الجليلين سيدي محمد المعروف ب ( سي جدي) و الفقيه سيدي محمد بلخياط و أخذ عنهما الشمائل و السيرة و موطأ الإمام مالك و الشيخ خليل و طرفا من صحيح البخاري و غيرها من المتون والأمهات.
قال حفظه الله تعالى: ( كان الفقيه سيدي محمد المعروف ب(سي جدي) رحمه الله جديا في أموره كلها للغاية، عليه هيبة ووقار، قليل الكلام مع الناس، يميل للعزلة شيئا ما، لا يشتغل بما لا يعنيه، إذا أنهى درسه قام من مجلسه فورا، و لم يكن يجلس يتجاذب أطراف الحديث لا مع الطلبة و لا مع غيرهم، وأما سيدي محمد بلخياط رحمه الله، فكان من أولياء الله تعالى بلا شك، ذا أخلاق عالية في غاية الأدب و التواضع، عليه سمة الصالحين، شديد الحرص على تعليم الطلبة و يجتهد في ذلك أيما إجتهاد، لا يتوانى في إرشادهم و مساعدتهم، و كل من قرأ عليه فتح له في العلم و الفهم، أخبرني رحمه الله انه إذا رأى شابا و تمنى أن يكون من طلبة العلم فلا يمر وقت طويل حتى يراه في مجالس العلم و لا ريب أن هذا من كرامته).
قال مولانا الشيخ الوالد حفظه الله: ( لما أتيت إلى مكناس لإستكمال دراستي سكنت بمنزل جدي سيدي قاسم الهيلالي رحمه الله، الذي كان والدي رحمه الله قد إشتراه من ورتثه، كما كان لي بيت في سكن الطلبة، و في الليل كنت أبيت في المنزل، و تلك أيام لا تنسى مليئة بالمدارسة و الإجتهاد و السمر و المنافسة في طلب العلم، كما أني حضرت دروس شيخنا سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه التي كان يلقيها بجامع الزيتونة مع جملة من الطلبة، خصوصا الفقه و التفسير و شرح الحكم العطائية و كذلك الدروس الرمضانية بزاويته. و أول مرة قصدت درسه مع بعض الطلبة قلت في نفسي لعل الشيخ لا يتذكرني، فلما أنهى درسه قمت للسلام عليه و تقبيل يديه مع الطلبة، فلما أهويت لذلك، أخذ بيدي بين يديه و قال لي أنت مولاي هاشم بن مولاي عبد الكبير و تبسم رضي الله عنه جوابا لي عما قلته في نفسي).
كما لازم حفظه الله حضور مجالس الذكر الأسبوعية بالزاوية و مختلف المناسبات التي تقام بها، فجمع الله له بين الأمرين، طلب العلم و سلوك الطريقة، تحت نظر شيخه سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه.
و في وقت العطل المدرسية كان يرجع إلى أبيه بمدينة أزرو، فيتعلم منه أصول التجارة، فيكلفه ببعض الأمور حتى يستأنس تحمل المسؤولية و يكتسب خبرة تنفعه في حياته المستقبلية، و عند إتمام دراسته و تحصيله على شهادته و إجازته من شيوخه أراد السفر إلى مصر و إستكمال مسيرته العلمية لكن هذا الأمر لم يتيسر.
السفر إلى الخارج
و في سنة 1958م، سافر حفظه الله إلى فرنسا و هو ينوي الرجوع إلى أهله قريبا، غير أن الأقدار الإلهية ساقته في رحلة مطولة بأوروبا، زار خلالها عددا من الدول، دامت تسع سنوات قال حفظه الله : ( لم تكن لي نية أبدا في الإستقرار بأوروبا، لذلك كنت دائم الترحال بين المدن و الدول أشتغل حينما أحتاج إلى المال، و لما يتوفر لي مبلغ كافي أقصد وجهة أخرى و هكذا، رغم أنه قد عرضت علي وظائف كثيرة و فرص للعمل عديدة، منها منصب في القنصلية المغربية بفرنسا و وظيفة رسمية في ألمانيا و غيرها، إلا أن ذلك لم يكن ليغريني بالبقاء هناك، مكثت في فرنسا سنتين و بضعة أشهر، ثم بلجيكا وهولاندا بضعة أسابيع، ثم ذهبت إلى ألمانيا و قضيت بها أربع سنوات، وهي أطول مدة في دولة بعينها، و فيها إلتحقت بأحد المعاهد و درست اللغة الألمانية و أشتغلت بالتجارة مدة من الزمان، و منها إلى السويد عبر الدنمارك قضيت فيها حوالي سنة و سجلت بكلية في ستوكهلوم، و إنصرفت منها إلى فلندا و مكثت فيها ثمانية أشهر و بضعة أيام، ثم عدت إلى ألمانيا و فرنسا ثم قصدت سويسرا مكثت بها شهرا، و كذلك إيطاليا و منها إلى تونس ثم ليبيا، ثم مصر مكثت بها ثلاثة أشهر، فطلبت التأشيرة للدخول إلى الحجاز فماطلوني في الأمر، فذهبت إلى سودان حوالي شهر ثم يسر الله تعالى و دخلت الحجاز).
في الحجاز
قال مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى : ( لما عدت للسفارة السعودية في مصر و طلبت تأشيرة الدخول إلى الحجاز ماطلوني في الأمر طويلا، و قالوا إن جواز سفرك على وشك نهاية صلاحيته، قلت لهم أريد أن أعتمر فقط، و بعد أخذ ورد قالوا سنعطيك تأشيرة لمدة ثلاثة أيام تعتمر بسرعة ثم تخرج، قلت نعم موافق، فقصدت جدة و في نفس اليوم توجهت إلى مكة و أديت في الغد مناسك العمرة و منها ركبت إلى المدينة المنورة لكي أزور النبي صلى الله عليه وسلم و على أله، و كانت نيتي هي الخروج من الحجاز في اليوم الثالث كما هو الإتفاق).
في المدينة المنورة:
قال مولانا الشيخ الوالد حفظه الله : ( لما وصلت المدينة المنورة قصدت المسجد النبوي مباشرة و زرت الروضة الشريفة، و بعدها ذهبت الى مكان يعرف أنداك بحي المغاربة، و هو عبارة عن مساكن و غرف أوقفها المغاربة قديما على المجاورين بالمدينة، و لم أقصد الفندق لأني نويت أن أبيت تلك الليلة فقط و أغادر في الصباح، فأعطاني المسؤول غرفة مشتركة مع أحدهم، فلما دخلت عليه كره ذلك و ظن أني جئت لمزاحمته، و ظهر من نظرته عدم رضاه عن الأمر، فبت في ناحية من الغرفة دون فراش و بات هو في الناحية الأخرى، و في تلك الليلة أكرمني الله تعالى برؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم و على آله).
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم و على آله في المسجد النبوي على حالته القديمة التي كان عليها في زمنه، و أمرني صلى الله عليه وسلم وعلى آله بأن ألا أغادر المدينة، فقلت له : يا رسول الله ما عندي تأشيرة، فأراني عددا من الناس، و قال لي: هؤلاء كلهم ما عندهم تأشيرة. كما أمرني بصوت حازم و قال لي: نفذ الأمر).
و لما إستيقظنا لصلاة الفجر، جاءني الرجل الذي معي في الغرفة، و سألني هل أنت شريف يعني من أهل البيت، قلت نعم، فقال لي أعتذر منك و أطلب منك مسامحتي، فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أله بالأمس، و قال لي: جاءك ولدي و ما قمت معه بواجب الضيافة. فذهب من حينه و إشترى لي فراشا وكل ما يلزم.
و مكث مولانا الشيخ الوالد بالمدينة من شهر رجب إلى أن جاء موسم الحج، فقصد مكة و أدى مناسك الحج، و منها عاد إلى المغرب، و في الفترة التي كان فيها مولانا الشيخ الوالد حفظه الله خارج الوطن لم تنقطع المراسلة بينه وبين أهله، إذ كان يطلعهم باستمرار عن مكان تواجده و عن أخباره و مستجداته.
عودته الى المغرب
و في سنة 1967 م، عاد حفظه الله تعالى إلى المغرب و إستقر بمدينة مكناس، فكانت فرحة والده برجوعه لا توصف، و قرر هو أيضا السكن بمدينة مكناس نهائيا، و فور عودة مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى ذهب إلى زاوية شيخه سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه، و جدد العهد معه و لازم خدمته و صحبته، فكان يذهب لمحل تجارته صباحا و في المساء يتفرغ للزاوية بهمة و جد، فكان شعلة من النشاط، كما أخبرني بذلك أحد كبار الفقراء القدماء سيدي عبد الحي السوسي، كان دائم الحضور لا يتوان في شيء يخص مصلحة الزاوية و الفقراء.
نظرة الشيخ للمريد
كان حفظه الله تعالى شديد الحرص على التواجد قرب شيخه لخدمته سواء في زاويته أو عندما يكونوا في سياحة مع الفقراء، ينفق من ماله و وقته و جهده في صمت و إخلاص، لا يرجوا بذلك مطلبا و لا منصبا و لا حاجة معينة، رغم من ينكر عليه و من يعذله و من يكيد له، فكم قيل له و قيل عنه، لكنه لم يلتفت لأحد، فمن عرف ما قصد هان عليه ما وجد، و مرت مدة و هو على حاله و جده و إجتهاده، حتى كان ذات يوم طلبه الشيخ رضي الله عنه و أمره أن يصعد إلى غرفته الخاصة قال مولانا الشيخ حفظه الله :
(فلما دخلت عليه أشار إلي أن أقترب و أجلسني على سريره و أخذ بيدي بين يديه وطأطأ رأسه و أخذ يهمس بشيء لم أتبينه ثم رفع رأسه وصوب نظرته إلي، و يا لها من نظرة كان فيها الخير كله)
قال لي حفظه الله : ( منذ ذلك اليوم فتحت لي الأبواب كلها ) إشارة إلى ما ناله من فتح و بركة و فضل، و كيف لا، وشيخنا يقول في بعض قصائده:
كم نظرنا في سالك فترقى لمقام الذين خاضوا البحارا
وصية الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه
قبل وفاة شيخنا سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه بشهر، كتب وصيته بحضور شاهدي عدل و بعض الفقراء، و عندي نسخة منها، هذا ملخصها: أوصى فيها أنه حبس زاويته و خزانته و ثلث منزله على الفقراء، و أن يدفن في المكان الذي دفن فيه، و أن المسؤول عن تسيير شؤون الزاوية من بعده هو مولاي الشريف البلغيثي مقدم الطريقة بمدينة خنيفرة.
وفاة الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه
لما عزم شيخنا سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه الذهاب إلى الحج سنة 1972 م، قرر مولانا الشيخ الوالد حفظه الله الذهاب معه، إلا أن خالة مولانا الوالد طلبت مرافقته و كانت كبيرة في السن، فقال لها : ( إنك لن تستطيعي السفر إلى الحج عبر البر، فالطريق طويل وشاق بالنسبة إليك، و أنا أريد مرافقة شيخي عبر طريق البر ) ، لكن ألحت عليه كثيرا، فلما رأى ذلك و لم يريد أن يحرمها من الحج إختار السفر عبر الطائرة على أمل اللقاء بشيخنا هناك، و لما حضر موسم الحج إجتمع الفقراء بمكة ينتظرون وصول الشيخ، و بينما هم على حالهم حتى جاءهم الخبر المحزن أن الشيخ قد توفي رحمه الله بالجزائر فانصدعت قلوبهم و داخلهم حزن شديد، فأتموا مناسك الحج وهم محبطون و كأنهم تائهون ثم رجعوا إلى المغرب.
إجتماع الفقراء بعد وفاة الشيخ
إجتمع بعض مقدمي الطريقة و خاصة أصحاب الشيخ رحمه الله من أجل التشاور في أمر الطريقة و ما الذي يجب إتخاذه من قرارات بشأن ذلك، خصوصا أن الشيخ لم يعين خليفة له من بعده، لكنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة متفق عليها لإختلاف الآراء و وجهات النظر، و الأمر الوحيد الذي وقع الإتفاق عليه أن تبقى الأمور على حالها طبقا للوصية، أما مسألة مشيخة الطريقة فبقيت مبهمة.
توضيح
لم يثبت قط أن شيخنا سيدي محمد بن الحبيب رضي الله أوصى بالمشيخة من بعده لأحد مريديه لا كتابة و لا شفاهية، و الذي يقال و يتردد بين بعض المريدين، أن الشيخ رحمه الله كان مريضا ذات مرة فزاره أحدهم – و هذا الشخص غير معرف بالإسم – فلما رأى تلك الحالة، ظن أن الشيخ قد قربت وفاته، فسأله عمن يكون من بعده، فقال له الشيخ : لا أرى أحدا في هذا الوقت و إن كان من شيء فسيدي محمد بلقرشي.
لو كان هذا الأمر معلوما مشهورا بين الفقراء ولم يعملوا به فسيكونون بذلك قد خالفوا وصية شيخهم و إشارته !؟ و أين الراوي لهاته الحكاية ؟ لماذا لم يصرح حينما إجتمع الفقراء بعد وفاة الشيخ بهذا الأمر؟
إن كان قد كتم، فقد خان الأمانة، إذ لو صح هذا، لحُسم الأمر، و لم يكن هناك تباين في الآراء و المواقف بين كبار الفقراء، و لا أظن أن هذا كان سيخفى على خاصة الشيخ من أصحابه، و هم معرفون محترمون معظمون عند الفقراء، و لكان من دواعي سرورهم جميعا إجتماع الكلمة على شخص معين.
أما الشيخ سيدي محمد بلقرشي رحمه الله، الذي كان من المفروض الإتفاق عليه، فمن المعلوم و المشهور أنه إختفى مدة من الزمان بعد وفاة الشيخ رحمه الله، و لم يعرف أحد مكانه و ما ظهر إلا بعد ثلاثة اشهر، و قد علل ذلك أنه خشي إجتماع الفقراء عليه و إلزامه بمشيخة الطريقة، و مكث بزاويته في الصحراء و لم يعد قط إلى مكناس حتى توفي رحمه الله.
إجتهاد الفقراء
و كما هو معلوم لابد من شيخ مربي حي في الطريقة، و بما أنه لم يتفق مقدمي الطريقة و كبارها على شخص معين، إلتف الفقراء حول من حسنت نيتهم فيهم من أصحاب الشيخ رحمه الله و اتخذوهم شيوخا لهم، إعتمادا على ما يعلمونه من أحوالهم و ما يشهد لهم من أفعالهم و ما لمسوه من بركاتهم و ما أطلعهم الله تعالى عليه من خصوصياتهم، و إن لم يصرح أولئك بشيء و لا إدعوا المشيخة.
فبعض أهل الصحراء و غيرهم إتخذوا الشيخ سيدي محمد بلقرشي رحمه الله شيخا لهم، وبعض أهل فاس و غيرهم إتخذوا سيدي فضول الهواري رحمه الله شيخا لهم، و بعض أهل مكناس وغيرهم إتخذوا مولاي هاشم البلغيثي شيخا لهم.
وهكذا ظهرت ثلاث طوائف كبرى، و الكل تحت مسمى طريقة واحدة، و لم يحصل أي خلاف قط بسبب هذا الأمر، لا بين الشيوخ و لا بين الفقراء عموما، إلا من تعصب عن جهل لشخص معين، و هذا كان مرفوضا تماما، أما الشيوخ الثلاثة فقد كانت بينهم محبة وتعظيم و تأدب، فقد كانوا يتزاورون مع بعضهم و يتعاملون بينهم بكامل الإحترام و معالي الأخلاق كما شَهِدتُ ذلك.
حالة الطريقة بعد الشيخ المؤسس
عرفت الطريقة بعد وفاة الشيخ المؤسس سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه نوع من الفتور، خاصة أن التواصل بين الفروع كان ضعيفا، إلا بعض الأفراد الذين ظلوا على تواصل بينهم عبر زيارات خاصة، وكان لهذا الواقع نتائج سلبية على مستوى التنسيق بين الفروع من جهة، و على مستوى إنتشار الطريقة من جهة أخرى، إذ صارت الأمور تسير نحو الركود إن لم نقول الجمود، رغم محاولات البعض في إطار إجتهادات فردية على إبقاء جذوة الطريقة مشتعلة، إلا أن ضعف التواصل جعل نتائج هذا الإجتهاد تكون غير مثمرة كما ينبغي.
وصية التكليف
وفي سنة 1977 م، و لما ألم المرض بمولاي الشريف رحمه الله، المكلف بتسيير شؤون الزاوية حسب وصية الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه، قام بإستدعاء مولانا الشيخ الوالد حفظه الله و كتب له وصية عدلية بتسيير شؤون الزاوية في حياته وبعد مماته، و لما سئل رحمه الله عن سبب عدم الإيصاء بذلك لأحد ابنائه، أجاب رحمه الله : أن الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه هو الذي أوصاه بذلك، و أمره أن يجعل الوصية لمولاي هاشم البلغيثي. و قد تولى مولانا الشيخ الوالد حفظه الله مسؤولية تسيير شؤون الزاوية منذ ذلك الحين.
المهمة الصعبة
بمجرد إنتشار خبر تكليف مولانا الشيخ الوالد حفظه الله بمسؤولية تسيير شؤون الزاوية بمكناس، حتى ثارت ثائرة الحسد عند بعضهم، و صار لا هم لهم و لا شغل الا الكيد له، و مناصبته العداء، و ذلك عبر نشر الأكاذيب و الإفتراءات الباطلة حوله، سعيا منهم في إفشال مهمته و النيل منه، و مما يؤسف له هو مشاركة بعض نساء الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله في ذلك، فأحدهن كانت ترى نفسها أحق من غيرها بتسيير شؤون الزاوية، و شجعها على ذلك وسوسة بعضهم لها، و تزيينه لعملها و فكرتها بغضا في مولانا الشيخ الوالد حفظه الله. فلم يتركوا طريقا تؤدي إلى التشهير به و معارضته إلا سلكوه، و قد واجه حفظه الله ذلك بكل حزم و صبر و حلم و حكمة، فلم ينجر إلى مواجهتهم أو الرد عليهم، لمعرفته بحجم المسؤولية التي أُلقيت على عاتقه، لكنهم ظنوا ذلك منه ضعفا، مما شجعهم على مضاعفة جهودهم و تحركاتهم ضده.
و كلما رام حفظه الله إلى الإصلاح من جهة، إلا و قابلوا ذلك بالإفساد من جهة أخرى، و كأن بصائرهم قد طُمست عن رؤية الحق و إتباعه، و مما زاد الطين بلة، هو موقف بعض المقدمين المتخاذل مما يجري، إذ كلما كلمهم مولانا الشيخ الوالد حفظه الله في شأن ذلك، كانت حجتهم إن نساء الشيخ رضي الله عنه في مقام أُمهاتنا، و لا نقدر أن نقول لهن شيء رغم أخطائهن و ميلهن عن جادة الصواب. ولم يكن ذلك ليمنعه عن القيام بواجبه بل زاده حرصا و شحذا لهمته و ثباتا على موقفه، فكان ينفق على الزاوية من ماله الخاص، و ترك لهم ما حُبس عليها خالصا لهم، و جاهد بنفسه و وقته و ماله حتى تبقى الزاوية تؤدي رسالتها التي بنيت من أجلها، و حتى تبقى الطريقة متماسكة و الشمل مجموع، و جهوده يعرفها الخاصة و العامة في السبيل ذلك.
و قد ظل يكابد المعاناة و يلاقي الصعوبات مدة طويلة، حتى همَّ مرة بأن يكتب وصية تسيير شؤون الزاوية إلى غيره، و في تلك الليلة رأى شيخه سيدي محمد بن الحبيب في منامه و أمره ( بالثبات على الأمر و لزوم الزاوية ) فعمل بإشارة شيخه و بقي على حاله يشرف على المجلس الأسبوعي و يقوم بالموسم السنوي و السياحة على الفقراء و نشر الطريقة و التواصل مع عدد من الطرق الصوفية، و قد طبع ديوان الشيخ بعد أن كان شبه مفقود و وزعه مجانا على كافة فروع الطريقة، و قام بإصلاح الزاوية و ترميم و بناء ما تحتاج إليه.
مشيخته
في بداية التسعينات بدأ تظهر بشائر و إشارات أن الإذن بالتصدر للتربية و الإرشاد قد حصل لمولانا الشيخ الوالد حفظه الله، إلا أنه آثر الخمول و لم يذكر لأحد شيء من ذلك، كنت قد ذكرت سابقا أن بعض المريدين من مكناس و غيرهم قد إلتفوا حوله حفظه الله و إتخذوه شيخا لهم، بعد وفاة الشيخ المؤسس رضي الله عنه، و ذلك حسب ما ظهر لهم من أوصاف و أخلاق و إشارات أنبأتهم أنه من خلفاء الشيخ و أحد ورَّاتِه حقا، لكن كان ذلك في نطاق محدود، و بقي الأمر على حاله حتى أراد الله تعالى إظهار شأنه و كشف خصوصيته و إبرازه للدلالة عليه ونشر إسمه بين خلقه، فهيأ سبحانه و تعالى لذلك أسبابا و فتح قلوبا و أبوابا مما أدى إلى إعلان أمره حتى صار معلوما لدى الخاص و العام، و الذي يظهر من حالة و سيرة مولانا الشيخ الوالد حفظه الله، و ما إجتمع في حقه من الأدلة و البراهين على كمال خصوصيته و علو شانه في معرفة ربه، وما وقع من كرامات و مكاشفات بينه وبين مريديه، و كذلك الرؤى لبعض الصادقين، و إخبار عدد من الأولياء و الصالحين بأمره، و تأثير حاله قبل مقاله في أصحابه و مريديه، و هداية الناس على يديه، و شواهد أخرى كثيرة و بعض الإشارات منه تلويحا لا تصريحا، كلها تشير إلى معنى واحد أنه قد وقع له الإذن الصريح بالتربية و الإرشاد، إلا أنه لم يحصل له التهديد على الظهور كما وقع لشيخه و الواقع أبلغ شاهد.
الإعلان الرسمي
نتيجة لمجهودات مولانا الشيخ الوالد حفظه الله في نشر الطريقة، إنخرط فيها عدد كبير من الناس من مختلف المراتب الإجتماعية و خاصة الشباب، الذين كان لهم دور كبير في فتح فروع جديدة، وكان هناك دائما طلب يتردد في المجالس ولقاءات الفقراء ألا وهو إعلان مشيخة الطريقة رسميا، وفي سنة 1997 م، إجتمع ممثلوا الفروع الذين أخذوا الطريقة عن الشيخ مولاي هاشم البلغيثي في مدينة الدار البيضاء بمنزل المقدم سيدي الحاج عبد الكبير متقي رحمه الله، وتم الإعلان رسميا أن الشيخ مولاي هاشم البلغيثي هو الشيخ الحالي للطريقة، فعاد الفقراء إلى مناطقهم معلنين الخبر بعدما إتفقوا على اللقاء في الموسم السنوي بمكناس بمنزل مولانا الشيخ الوالد حفظه الله، و كذلك كان، فقدم عدد من الناس الراغبين في تجديد العهد معه، و تم الأمر، و هكذا كانت بداية مرحلة جديدة في الطريقة.
خدمته للطريقة
و أما خدمته حفظه الله تعالى للطريقة، فأمره فيها لا يخفى على أحد، بلغ فيه مبلغا عظيما مشهورا بين الناس حتى صار يضرب به المثل في ذلك، و أسلفت ذكر شيء منه، فكانت و لا زالت تلك حالته، فقد أوقف حياته على هذا الامر لا يكل و لا يمل، أتاه الله تعالى همة عالية و مددا ربانيا و صبرا جميلا و حلما كبيرا، يسترخص في سبيل الله تعالى نفسه و ماله و أهله و يردد دائما أن من فضل الله تعالى عليه أن جعله في خدمة الطريقة.
ورغم حسد الحاسدين و بغض المبغضين و كيد الكائدين و إنكار المنكرين و عذل العاذلين، إلا أنه لم يلتفت لكل ذلك، و توجه بقلبه و قالبه إلى مولاه مكتفيا به عما سواه فخصه و إجتباه و من منحه و مواهبه اعطاه، و ما زاده فعلهم إلا خدمة و إجتهادا، و يكرر دائما حفظه الله : إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر في ماذا أقامك.
و قد عمل بكل وسعه من أجل أن تعود زاوية شيخه إلى عهدها الأول، كزاوية للذكر و مدرسة للعلم، و تكلم مع السيد رئيس المجلس العلمي بمكناس على إحياء الدروس العلمية بالزاوية و تعيين إمام راتب بها فوافق مشكورا، و ابتدأ مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى بإتخاذ الإجراءات اللازمة و سمع الخبر و فرح المريدون و الأحباب بذلك، ولكن البعض ممن في قلوبهم المرض ومعهم إحدى نساء شيخه، دفع بهم الحسد إلى معارضة هذا الأمر بشدة خوفا من نسبة الفضل إلى مولانا الشيخ الوالد حفظه الله، و ما تركوا من وسيلة لإفساد هذا الأمر إلا إرتكبوها، و هكذا قضوا على هاته المبادرة الحسنة، كما كان يقوم بالإشراف على تنظيم الموسم السنوي بزاوية شيخه، يشتري كل ما يلزم و لا ينتظر من أحد عطاءا و لا مساعدة و يقف بنفسه على كل صغيرة و كبيرة خلال أيام الموسم و غيرها، بل تجده جالسا مع الفقراء مقدما إخوانه على نفسه تلك عادته دائما. و هكذا بقي مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى على خدمته لزاوية شيخه، رغم أن بعض من لهم غيرة على الطريقة و الزاوية قالوا له بتركهم و ما إختاروا لأنفسهم، فلا يرجى فيهم الرجوع إلى الحق و مخالفة الهوى. و ألح عليهم بعضهم في إتخاذ زاوية مستقلة، لكنه رفض ذلك كله و تحمل منهم ما تحمل من صفوف الأذى من أجل أن يبقى شمل الفقراء مجموعا و الزاوية عامرة، و قد ضل بيته حفظه الله تعالى مفتوحا أمام الجميع بدون إستثناء على مدار السنة، حتى من يعارضه أو يصل إلى مسامعه أنه يظهر له المحبة و يبطن البغضاء فلا يغلق بابه في وجه أحد قصده أبدا، و يساعدهم حسا ومعنى، فإذا لامه بعض أهله و أصحابه على ذلك، كان يقول لهم لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة.
زاوية الشيخ مولاي هاشم البلغيثي
و لما أراد الحق سبحانه و تعالى أن يستقل بزاويته هيأ لذلك أسبابا و فتح أبوابا، فقد إشتد عليه الأذى من بعض الفقراء و غيرهم ممن يسكنون دار الشيخ سيدي محمد بن الحبيب رضي الله عنه، فجاءه أحد الصالحين و قال له: لقد آن الأوان أن يكون منزلك زاويتك، فقال له مولانا الشيخ حفظه الله تعالى : لا أريد أن أكون سببا في الفرقة، فقال له ذلك الصالح: لا بد من ذلك أحببت أم كرهت فقد جاء وقتك، فقال مولانا الشيخ الوالد حفظه الله : لا حاجة لي بذلك و لا تطلع عندي للتصدر و الحمد لله، ولم يقع لي التهديد على ذلك كما وقع لشيخنا حتى تصدر. فقال له ذلك الصالح : و الله لتظهرن ولايتك و يعلم بأمر مشيختك رغما عنك. فقال مولانا الشيخ الوالد : لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم، و سكت.
وما هي إلا أيام حتى حدث ما أخبر به ذلك الرجل الصالح. و إنتقل عدد من الفقراء إلى منزل مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى و إتخذوه زاوية يجتمعون فيه كل أسبوع للذكر و المذاكرة و صار معروفا بإسم الزاوية، و يشار إليه بالزاوية الشيخ مولاي هاشم البلغيثي و إشتهر بذلك.
و هكذا صارت تعقد فيه مجالس الذكر و يقام فيه الموسم السنوي إحتفالا بالمولد النبوي الشريف، فهو مقصد الفقراء من مشارق الأرض و مغاربها، معروفا بذلك عند الخاص و العام، و لما رأى مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى هذا الأمر الواقع رغم أنه لم يكن له فيه أدنى سبب قال لي: ( لقد كانت والدتي رحمها الله تقول لي جعل الله دارك زاوية و من جاءها يشرب وقد حقق الله تعالى ذلك) .
بعض أحواله و سيرته
فمولانا الشيخ الوالد حفظه الله متمسك بالشريعة، مقتفيا للسنة في سائر أحواله معظما للأولياء الصالحين و محترما للعلماء و أهل الدين، محب للخمول و يكره تصدر المجالس، لا يفعل ذلك إلا اضطرارا، قليل الكلام هين لين في غاية اللطف دائم التبسم، يبسط مع زواره و مريديه فإذا قيل له في ذلك قال : ( مشربنا جمالي ) يقوم بخدمة ضيوفه بنفسه مجانبا للدعوى، لا يشير إلى نفسه قط، يحسن الظن بالجميع، ذا سخاء و كرم و إنفاق في سبيل الله و له في ذلك وقائع غريبة عجيبة، متحلي بمكارم الاخلاق.
دائم السؤال عن إخوانه الفقراء و المحبين، يدعوا لهم غيبا، كثير السياحة إلى مجالس الخير، يحب التواصل مع الفقراء أينما كانوا، يتزاور معهم و يجيب من دعاه منهم و يعطل مصالحه الخاصة في سبيل ذلك و يذهب إليهم مهما كانت الظروف، و يواسيهم حسا ومعنى، و يرشدهم و ينصح لهم في أدب وتواضع، يدعوا إلى الله تعالى بالحكمة و الموعظة الحسنة حالا ومقالا.
فتح الله تعالى على يديه و وصلت الطريقة إلى بعض الدول الأوربية و كذلك أمريكا و بعض الدول الأسيوية و صار له مقدمون فيها، ذلك كله ببركة الإذن و سره و تحقيقا للبشارة في شأنه و أنه من خاصة أهل وقته، و كيف لا و قد أقامه مولاه في مقام العبودية و خصه بخلعة المحبوبية و سقاه من أسنى شراب الأذواق و اللطائف، و أتحفه بأسمى دقائق العلوم و المعارف ثم هيأه للدلالة عليه و الإرشاد و أظهر خصوصيته للعباد فأقبل إليه من المريدين من كان في الأزل من المحظوظين و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
خاتمــــــة
هذا ما تيسر لي جمعه من سيرة مولانا الشيخ الوالد حفظه الله تعالى و أطال عمره في طاعته و رضاه، و أذن لي في كتابته و نشره و إلا هناك ما أُمرت بطيه، و لا يقولن قائل قد كتبت من باب كل فتاة بأبيها معجبة، كلا و ألف كلا، فهذا من باب التحدث بالنعم إذ ذاك مستوجب للمزيد.
هذا وأسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وكان الفراغ منه يوم الخميس 9 ربيع الاول 1441 هجرية الموافق ل 7 نوفمبر 2019 ميلادية.
الحمد لله رب العالمين